20 May
20May

قبل سنوات طوال تكاد تكون أبعد قليلًا من عينيك، وأقرب إليَّ من نَفَسٍ يهدجُ مثل ريح عاتية لم يكن هناك شواهد على وجعي أو حبي على حدّ سواء سوى هذه الهواتف العمومية المنتصبة كطابور عسكري صباحي! كرت بقيمة عشرة قروش لم يكن يكفي لأقول لك حكاية صغيرة، أو كلمتين فاض بهما الشوق والحنين. لكنه كان ادخار مصروفي لأسبوع كامل! كنت حين اُرتّب ميعاد المكالمة أتفاجئ بأنكِ لست من يُجيب. مرة، مرتين، ثم وعندما تظهرين أسمع قرقعة في قلبي تشبه رعدًا هائجًا، ثم ينقطع الصوت.. ينتهي الرصيد، أعبُّ نَفَسًا من هواء باردٍ مقطّر برائحة الربيع ثم انظر إلى السماء وأمضي، كأنني العاشق الفذ. أمشي كبطلٍ دون ظلٍ أو قلق....قبل يومين ساورني شعور قديم، وددت لو أُعيد الكرّة مرة أخرى، كمحاولة تنبيش الماضي اللعين، أو تغيير الحاضر الممل، أو حتى مشاكسة الزمن البليد، لا فرق في كل الأحوال! بالفعل اشتريت بطاقة، وضعتها في الهاتف، واتصلت...أول مرة لم يُجب أحد، بررت الأمر أنه إتصال دولي وربما أخطأت في مفتاح الدولة أو رقمكم القديم! تُرى هل تغيّر كل شيء أحفظه! ، مرة ثانية، سمعت رنين، كُنتِ لأول مرة تُجيبين، ياااااه.. أنتِ بعد عقدين من الزمن، لا تزال نبرة صوتك ترنّ في أذني ولازلت أسمع لهاث الروح من فرط الخجل!- ألو... ج ج جوليا-  نعم من حضرتك!- جوليا هذا أنا سامي!- سااااامي! من سامي -سامي ابن هيثم، جارك القديم وحبيب.....!-عفوًا من أين أتيت برقم أهلي!- هو الرقم الوحيد الذي احفظه جوليا! اثنان سبعة ثلاثة خمسة خمسة اثنين تسعة ....- نعم نعم ماذا تُريد؟- لا شيء أعتذر منك، قلت في نفسي لأُعيد شيئًا من الذاكرة، كأن أكرر اتصالاتي الفضولية القديمة، أو أرسل الرسائل الورقية تحت درج منزلكم، أطمأن عليك، أبادلك الغناء، أو نركض حفاة في مشاع الجيران.. صمتنا قليلًا، ضحكنا نحن الاثنين ضحكة هادئة باردة..كنت أودّ القول ليتني هناك إلى جانبك!وكانت تود القول فات الأوان يا عزيز!- لكنني تزوجت وأنجبت خمسة أولاد يا سامي...تداركت الأمر كأنني عالم به ولم أدرى كيف اجتث سكين ثلم مغروس في ظهري!- وأنا خارج المدينة منذ ذلك الحين!صمتنا مجددًا... كما دومًا .. وفي الخفايا دار كلام كثير...انتهى الرصيد، نسيت أن أقول لها لا أزال أحبها، ونسيت هي الأخرى أن تقول أصلًا أين كنت كل تلك المدة يا سامي!أغلقت الهاتف.. (مضيت) ليس كما الماضي رافعًا رأسي، اشتمُّ بأنفي هذا الهواء العليل. طأطأت رأسي وسرت، لا أرى سوى سواد يحيط بي، لعنت الحظ واسمي وذكرياتي السوداوية. كل شيء اختفى بلحظة لكن شيئًا واحدًا ظل يظهر في نظري، هاتف الشارع ورقم منزلهم اثنان سبعة ثلاثة خمسة خمسة اثنين تسعة .... 



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.